ي واحدة من العطلات الصيفية بتُ في منزل جدتي ليالٍ طويلة، وفي آخر تلك الأيام كنت أفكر في البيت كثيرًا وتحديدًا غرفتي، كنت سعيدة للغاية مع جدتي وبنات عمومتي ولكني اشتقت لغرفتي ومكوثي فيها لساعات طوال وحدي، أدركت حينها انني أحب بيتنا كثيرًا للمرة الثانية.
كانت الأولى بعد فترة مشابهة كنت فيها بعيدة لفترة طويلة، وعند دخولي البيت داهمتني رائحته وقلت: ياااه ما أحلى رائحة البيت!
أسكن في واحدة من أحياء جنوب جدة، على عكس حينا القديم فهذا الحي هادئ وممل جدًا، يتميز حينا القديم بالحياة، في الصباح يضج الشارع بالسيارات وطلاب المدارس فقد كانت هناك مدرستين ومجمع مدرسي كبير لا يفصل بين كل منهم سوى شارع، يتكرر المشهد ظهرًا، وبعد صلاة العصر يلعب الأطفال الكورة أمام المسجد وفريق آخر بالقرب منه، وفي رمضان تُزين الشوارع ولا يتوقف اللعب حتى وقت السحر. لا أخفيكم أن بعد قرار هد بعض الأحياء السكنية تغير حينا هذا وبدأت تظهر عليه معالم الحياة بسبب سكانه الجدد حفظهم اللّه.
يقع بيتنا في الطابق الخامس، يبدأ بممر صغير على يساره باب يخرجك للسطح (المتنفس)، زين والدي السطح بالنباتات الجميلة مثل الريحان والحبق والنعناع وملكة الليل التي تفتح أزهارها البيضاء الصغيرة ليلًا وتنفث لنا في الجو عبقها الزكي! وهناك تجارب زراعية لا تنجح إلا في الشتاء مثل الطماطم والفلافل، الكثير والكثير من النباتات المتسلقة والمتميزة بألوانها الزاهية. في الشتاء وحينما يكون الطقس معتدلًا، يتحول السطح لمتنفس ومكان “لتغيير الجو”، نذاكر، نُجري اتصالاتنا السرية، نشوي ونستضيف العائلة والأصدقاء، نسهر حتى الصباح نناقش قضايا الأمة وقد نعاتب أو نُظهر أنيابنا لبعضنا ثم نلقي الدعابات.
ثم هناك ممر آخر يمين الممر الأساسي، على اليمين يكون المجلس وعلى اليسار دورة المياه، عندما تتقدم للأمام قليلًا ستجد المطبخ يسارك، مستطيل الشكل وصغير لا يتسع لأكثر من ثلاث أشخاص، تطبخ أمي ألذ أطباقها هنا. بالأمس أعدت لنا (اللازي) وهو طبق باكستاني حار لا أعرف الكثير عن مكوناته سوى وجود الجزر والفلافل. المطبخ بالنسبة لأمي هو مكان مناسب للطبخ ولحضور المحاضرات الإلكترونية ولاتصالاتها السرية مع خالتي صباح والتي تدوم لساعات وساعات.
الصالة تقع في قلب البيت، والتي احتلها أخي الأصغر عمُّور (أي عمر) مع جهازه المزعج “PC”، انتقل للصالة بطلب من علي الذي عبر عن انزعاجه من صوت لوحة المفاتيح التي تشتت من تركيزه أثناء مذاكرته لدروسه! بالطبع عمّور لبى طلبه وبدلًا من أن يزعج عليًا وحده سيزعجنا كلنا من باب العدل والإنصاف.
أخيرًا، نهاية الصالة ممر صغير يحتوي على غرفتين واحدة منهما لي ولأختي الصغيرة ليلى، غرفة مليئة بحكايات ما قبل النوم…حكايات تضم أحلامنا وأهدافنا وكل أسرارنا، في هذه الغرفة متنفس آخر لأهل البيت؛ فحينما يغضب عمّور يأتي هنا ليفرغ لنا مافي صدره، حينما يشعر أحدهم بالملل سيزور هذه الغرفة. لا أؤمن بالطاقات ولكن غرفة الأخوات لها طاقة مختلفة! لا شيء يميز هذه الغرفة عن باقي البيت سوى الكتب ومن يسكنها (:.
هذه الغرفة شاهدة على أفراحنا وأحزاننا، على أملنا ويأسنا، على سقوطنا ونهوضنا، على لحظات التوبيخ والتشجيع، على عدد المرات التي حبسنا فيها الدمع وعلى المرات التي صرخنا فيها من شدة الفرح، هذه الغرفة شاركتنا الكثير من القصص بحلوها ومرها، في كل مرة يتغير جزء من هذه الغرفة يكون بمثابة البصمة لذكرى ورحلة معينة، لون الجدار خلفه قصة، المكتبة الخشبية لها قصة، الصندوق الأبيض عند سرير أختي له قصة وهكذا.
يكون البيت بيتًا بمن فيه لا بجدارنه وأثاثه، قد تسكنه وحدك أو مع عائلتك أو أصدقاءك، ما تزرعه في هذا البيت هو الذي سيشعرك بالإنتماء، القصص التي ستعيشها معه، النظام الذي ستكونه لنفسك وقت مكوثك فيه، ما تصنعه من تغييرات في المكان، الدروس الي ستتعلمها هنا … إلى آخره.
اكتشاف المزيد من إيثار نزار
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.